طيلة سنوات وسنوات، طلبت من والدتي، التي كانت شابة تضجّ بالحياة، وتتمتع بكامل قوتها، في ذلك الوقت، أن تأتي للعيش معي في لبنان.
وضعت في ذهني خطة واضحة؛ تأتي أمي للعيش في منزلي مع تمتعها باستقلالية تامة! فنقضي بعض الوقت في “الصبحية” على الشرفة، ونذهب لتناول غداء مبكر في منتصف الأسبوع، وننظم رحلات طويلة أيام الأحد. ووسط كل ذلك، نحرص على أن تنظم أمي مشاريع مع أصدقائها وأقاربها الكثر المقيمين في لبنان. فتزورهم، ويخرجون لتناول الغداء معاً أو يقومون برحلات سياحية في مختلف ربوع لبنان. تطهو لنا أمي أطباقها اللذيذة، وتنعم بلحظات هدوء تقضيها في المطالعة، أو أخذ قيلولة، أو الجلوس في الحديقة ترتشف كوب شوكولا ساخن، وتتمتع بحياة هادئة وتنعم بأشعة الشمس. وبالطبع، وفيما تقوم بكل ذلك، نعيش نحن، أولادها، حياتنا العملية كالعادة.
إلا أن هذا الحلم لم يتحقق أبداً. ففي البداية، تغاضينا عن الفكرة لأننا كنا نخشى ألا تحظى بمتابعة صحية تامة في لبنان، ولاسيما وأنها أجرت عمليتي قلب مفتوح وهي تضع بطارية في قلبها. ووصلنا إلى حلّ وسطي لهذه المخاوف، فاقترحنا بأن تأتي إلى لبنان لبضعة أشهر خلال فصلي الربيع والصيف، ومن ثم تعود إلى الولايات المتحدة الأميركية لتجري فحوصاتها السنوية الروتينية. وبعدها، وكلما حجزنا موعداً لرحلتها، كان يطرأ شيء ما، فنؤجّل موعد سفرها. فقد عانت من الْتِهابُ الشِّرْيانِ الصُّدْغِيّ وأوشكت على أن تفقد بصرها. وما إن تعافت من ذلك، أصيبت بالتهاب في الرئتين واضطرت للخضوع لعملية جراحية عالية المخاطر. وبعد بضعة أسابيع، وتحديداً في ذكرى عيد ميلادها، وبعد أن كانت قد شفيت من التهاب الرئتين، وقعت من على درج مؤلف من خمس عشرة درجة، وكسرت سبعة من ضلوعها، وفكّت كتفها وكسرت عظم الترقوة.
اتفقنا على أن أسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لأساعد أختي في الاعتناء بها إلى أن تستعيد عافيتها. وبعدها، نعود أنا وهي إلى لبنان، لتستكمل معافاتها. وحينها أخصص بضعة أشهر للعناية بها، ريثما تستعيد عافيتها وطاقتها، وتصبح قادرة على معاودة مسار حياتها. وبما أن أختي الكبرى تعيش على مقربة مني، فسنتشارك الحمل، فيخفّ.
انتقلت أمي إلى لبنان، إلا أنني صدمت بأمر غير سار.
لقد تحسّن وضع أمي، وشفيت من ضلاعها المكسورة، ومن كتفها المفكوك، بفضل عوامل عدة منها الطقس الجيد، العناية المنزلية والعلاج الفيزيائي الدوري. ونظراً لسنها، وبالرغم من المشاكل الطبية السيئة التي مرت بها خلال السنة والنصف الفائتة، إلا أنها تحسنت أخيراً. والآن، بات بإمكانها القيام بكل الأمور الرائعة التي تخيلت بأنها ستقوم بها. واعتقدنا أخواتي وأنا بأننا سنستطيع المضي قدماً في حياتنا من دون أن نشعر بالقلق حيالها.
وحينها، عانت من نزيف في الدماغ. وفجأة، لم تعد بكامل قدرتها الفكرية وباتت كصفحة بيضاء. اضطررنا إلى إدخالها إلى المستشفى وعدنا إلى نقطة الصفر. وطيلة ثمانية أيام مرّت علينا كدهر، ظننا أننا سنفقدها، وطيلة أسابيع منهكة، كنا نعيش على أعصابنا وأمي تتأرجح ما بين الحياة والموت.
والحمد للّه، وكما هي عليه الحال في كل مرة وافاها المرض، تعافت أمي بأعجوبة، ونجت من أي من النتائج الخطرة والطويلة الأمد التي يعاني منها الأشخاص الذين يمرون بما مرت به.
وبطبيعة الحال، عشنا لحظات امتنان لا تقدّر بثمن. ولكن، في تلك المرحلة، بدأت أدرك تدريجياً، واقعًا من وقائع الحياة، تجلّى لي بوضوح كالشمس.
الليلة مخصصة للعب الورق، إلا أنني لا أستطيع الذهاب لأنني لا أستطيع أن أترك أمي بمفردها ليلاً. اتفق أصدقائي على اللقاء للغداء، إلا أنني لا أستطيع ملاقاتهم لأنني أخشى أن تتعثر أمي على الدرج، وهي تقصد المطبخ لتناول بعض الطعام. بدأت أستيقظ في منتصف الليل لأنني أخشى بأن تكون قد تعثرت وهي في طريقها إلى الحمام.
نحن نعيش حياتنا معتقدين بأن أهلنا سيظلون شباناً وشابات طيلة حياتهم. كما لو أنهم سيقضون حياتهم في الاعتناء بنا وتدليلنا، وتحضير الأطايب لنا، والاهتمام بالمهام المنزلية البسيطة حتى نتمكن من الخروج إلى العالم ونهتم بالمسائل الكبرى.
ولكن، فجأة، نكتشف بأن أمنا لم تعد شابة كما كانت، ولم تعد قادرة كما اعتدنا أن تكون. فجأة نكتشف، بأن والدنا، الذي يعاني من مشكلة سمع بسيطة، يعاني اليوم من ضمور بقعي مرتبط بالعمر! يا إلهي! الحمد لله أن هذه المشكلة لا تسبّب العمى الكامل، إلا أنها تصعّب النشاطات اليومية. ونكتشف كيف يتعين علينا السير بقربهم ببطىء شديد، للحرص على الإمساك بهم بإحكام. كما أن صمتهم الطويل وتفكيرهم يكشف لنا بوضوح بأنّ التقدم في السن أمر مشؤوم ومخيف يرخي بظلاله علينا بينما نحن غارقيين في حالة النكران.
لقد اكتشفت بأنه، وفيما يتقدم الناس في السن، لا يعودوا أبداً إلى ما كانوا عليه في العام الماضي، والشهر الماضي، والأسبوع الماضي أو حتى اليوم الذي مضى.
وحينها، أيقنت، بأن هذا سيكون حالي في السنوات المقبلة. أنا، في يوم من الأيام، سأكون مثل أمي، وسيكون أولادي مثلي. فهذه الأدوار يتم تناقلها كما لو أنها إرث عائلي. فبالإضافة إلى ذلك الخاتم الجميل الذي ارتدته أمي كل تلك السنوات، سأنقل دوري كابنة إلى أولادي. وقد عزّز هذا الإدراك شعوري بالقلق. فقد خشيت إزعاجهم، ومقاطعة مسار حياتهم بالصعوبات وانعدام القدرات والعجز الذي لا مفرّ منه، ومن عدم قدرتي على الاعتناء بنفسي. وأنا أتمنى من كلّ قلبي، ألا يضطروا للمعاناة من ذلك.
من حسن الحظ، فإن الزوبعة تخفّ، ونتنمكن من إيجاد روتين مقبول للتعامل مع هذا الواقع الجديد الذي فُرض علينا. ومع الوقت، نتمكن من تيقّن التفاصيل العملية التي نحتاج إليها للعناية بشخص مسنّ وندرك كم أننا نعيش نعمة حقيقية، ونحيا لحظات هدوء وتقدير ممزوج بالفرح لمعرفتنا بأن كلّ الأمور بخير. وندرك بأنه، وتماماً كما ارتفعت حياتنا بمجيء أولادنا، فإن حياتنا ستتغير من جديد بوجود والد أو والدة مسنة. إنها مسيرة بكل ما للكلمة من معنى!
إلا أن النهايات السعيدة لا تأتي دوماً كما نتوقعها أو نأمل بأن تكون. فبالإضافة إلى الزيارات المتكررة إلى الأطباء والهرع إلى الصيدلية، نقضي والديّ وأنا أوقاتاً ممتعة في الدردشة على الشرفة المشمسة، وتستمتع والدتي بارتشاف فنجان الشوكولا الساخن بهدوء. وبالرغم من أنها لا تحضّر طعام الغداء، إلا أنها تشرف على تحضيره. أما والدي، فيلعب معنا الورق في ليلة لعب الورق. وقد استعضنا عن الغداء المبكر في منتصف الأسبوع بغداء عائلي دافىء مع الأصدقاء والأقارب خلال عطلة نهاية اللاسبوع، ولم تعد رحلات يوم الأحد تستغرق اليوم بطوله، بل باتت تقتصر على بضع ساعات.
وما بين نظراتهم المليئة بالامتنان والمجبولة بالاعتذار، يتأرجح قلبي ما بين خبرة تنقية روحية تستحوذ عليّ وألم وغصة تعصر قلبي. صحيح أن انقلاب الأدوار مع أهلنا مهمة لا تخلو من الصعوبة، إلا أنني أردد دوماً لنفسي بأنهم يمرّون بيوم عصيب، وعلينا وحدنا أن نجعله أفضل بالنسبة إليهم.